دور الوالدين في انتشار ظاهرة العنف ضد الأطفال. د/ مراد بوقطاية – قسم علم النفس وعلوم التربية-كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية-جامعة الجزائر
ملخص المقال:
يهدف هذا المقال إلى استكشاف دور الوالدين في انتشار ظاهرة العنف ضد الأطفال. وهذا هو الموضوع الذي نعالجه في هذا المقال، بدءا بتعريف العنف، والعنف الموجه ضد الأطفال من طرف الوالدين، ثم نستعرض شكلي العنف المستعمل من طرف الوالدين ضد الأطفال: العنف الموجه والعنف غير الموجه، وكيف يستطيع هذان الشكلان تأصيل العنف أو استئصاله عند الأطفال، وصولا إلى صياغة بعض التوصيات التي تساعد الوالدين في رسم أسس وملامح شخصية الطفل المستقبلية.
مقدمة:
نالت ظاهرة العنف في الأسرة اهتمامات الكثير من الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين بهدف فهمها
وإيجاد حلول واقعية لها. ذلك لان الأطفال هم الأكثر تعرضا لنتائجها السلبية، فمرحلة الطفولة هي أكثر المراحل العمرية لدى الإنسان قابلية للتأثر بكل ما تتعرض له من خبرات مؤلمة وبالتالي أكثرها تأثيرا في بناء شخصية الطفل في مراحل حياته اللاحقة فأي نوع من أنواع العنف سواء الناتجة عن الظروف التي تحيط بالطفل داخل الأسرة أو تلك التصرفات الموجهة ضده مباشرة تترك أثارها في جوانب شخصيته.
نتيجة لذلك فان أي خلل أو اضطراب يصيب شخصا ما في أي مرحلة من مراحل حياته إنما يعود في أكثره إلى الخبرات المؤلمة التي تعرض لها الفرد في المراحل المبكرة من عمره خاصة السنوات الخمس الأولى من حياته.
وبما أن الأسرة ( الوالدين ) هي المؤسسة الاجتماعية والإنسانية التي ينشا ضمنها الفرد في طفولته، وهي المصدر الأول الذي يسهم في إشباع متطلبات نموه ( الجسدية والنفسية والاجتماعية والوجدانية في كل المراحل الإنمائية، فان للأسرة ( الوالدين ) بهذا تأثيرا قويا وناجعا على الطفل فقد تكون الأسرة ( الوالدين ) مصدرا لطمأنينة الطفل وتحقيق النمو السليم والمتوافق لشخصيته كما قد تكون المصدر الذي يثير وجدانه ويزيد من احتمال سلوكا ته العنيفة واضطراباته النفسية، علاوة على أنها يمكن أن تكون المصدر لكثير من المشكلات والآفات الاجتماعية.
فمصدر طاقات المجتمع الفردية والجماعية هي الأسرة( الوالدين ) فكلما كانت التربية الأسرية للطفل قائمة على أسس وعوامل سليمة وبناءة كلما رفدت المجتمع بعوامل القوة والنجاح.
ومع ذلك، لا يغيب عن البال صعوبة الحديث عن تأثير العنف في الأسرة على شخصية الطفل من منظور خاص بعيد عن تأثير المجتمع الأوسع بمؤسساته التربوية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعمل مجتمعة على تأصيل العنف أو إستئصاله.
مع هذا كله انه لا يمكن تحميل الأسرة وحدها مسؤولية ارتفاع أعداد ضحايا العنف من الأطفال بيد إن ملاحظات الحياة اليومية وخبراتها تشير إلى أن مشكلة العنف في الأسرة موجودة في مجتمعنا ويمارسها الآباء والأمهات بأساليب متنوعة ومتباينة.
انطلاقا مما ذكر سابقا تصبح -حماية الطفل ووقايته من كل ما يمكن أن يتعرض له من أساليب العنف في الأسرة ومظاهره المختلفة – ضرورة ملحة. لهذا نسعى إلى تحديد الأسباب الرئيسية وراء تلك المظاهر من اجل وضع توصيات وقائية واقعية عملية من شأنها الحيلولة دون إمكانية تعرض الطفل للعنف ضمن محيط أسرته أو على الأقل التخفيف منه.
لتحقيق الهدف المشار إليه سنحاول تسليط الضوء على أساليب العنف الموجهة ضد الأطفال ضمن محيط أسرهم وتأثيراتها على جوانب شخصيتهم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن ما يتضمن هذا المقال من معلومات ميدانية لم يتم الحصول عليها بواسطة أدوات جمع البيانات الميدانية كالاستبانة والمقابلة أو ملاحظة مستندة إلى تحليل دقيق مرتبط بفروض محددة إنما ما تسنى من حالات رصدت خلال الملاحظات اليومية.
ومن الأمور الجديرة بالانتباه والتي استخلصت من تلك الملاحظات الأولية صعوبة الحصول على عدد حالات العنف في الأسرة نتيجة الاعتقاد السائد بان هذه الحالات هي شان خاص بالأسرة، ولا يحق لأي معرفتها والتدخل فيها، لهذا لا تسجل بالإحصاءات الرسمية ولا يمكن معرفتها رسميا أو الإبلاغ عنها باستثناء الحالات النادرة التي يتم اكتشافها بواسطة الضحايا من الأطفال أنفسهم.
تعريف العنف ضد الأطفال في الأسرة:
لوحظ أن تعريف العنف في الأسرة ضد الأطفال محل اختلاف عند الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين والتربويين حتى القانونيين، فليس هناك تعريفا جامعا مانعا متفق عليه لمعنى العنف ضد الأطفال في الأسرة، مع أنها متفقة على رفض استخدام العنف ضد الأطفال وقبول فكرة العقاب المقبول غير المؤذي لتأصيل سلوك ما أو لاستئصاله.
فبعض هذه التعريفات ترى أن العنف هو الاستخدام الفعلي للقوة المادية لإلحاق الضرر والأذى بالذات أو بالأشخاص الآخرين وتخريب الممتلكات للتأثير على إرادة المستهدف، وبعضها ترى أن العنف هو الاستخدام الفعلي للقوة أو التهديد باستخدامها، والبعض الآخر يرى أن العنف هو كل سلوك فعلي أو قولي يتضمن استخداما للقوة أو تهديدا باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر المادي أو المعنوي بالذات أو بالآخرين أو بممتلكاتهم للتأثير على إرادة المستهدف.
إن اعتبار العنف سلوكا إنسانيا، يندرج ضمن الدراسات الاجتماعية والإنسانية، فهي التي تهتم بموضوع تحديد معنى العنف وقياسه، إلا أن هذا الموضوع يبقى محل اختلاف كبير بين الباحثين، ذلك أن فهم وتفسير السلوك الإنساني لا يعتمد على ثقافة المجتمع فقط بل هناك معايير كثيرة يحدد بمقتضاها السلوك الإنساني، فهي التي تبين من له الكفاءة ليضع ويحدد معايير السلوك الإنساني السوي والسلوك الإنساني الشاذ، وبالتالي من الذي يحدد إن كان هذا السلوك عنفا أو ليس عنفا. لهذا يختلف الحكم على سلوك واحد، وعلى مدى اتصافه بالعنف باختلاف الشخص الذي يصدر عنه السلوك، ومن يوجه إليهم، ومن يحلل أبعاده أو يشاهد أحداثه.
ينطبق الأمر نفسه على مفهوم الطفولة ومداها الزمني، فمنهم من يحددها بسن معين، ومنهم من يحددها بخصائص نمو معينة.
موقف الباحث:
أمام تعدد وجهات النظر حول معنى العنف وتداخله مع مصطلحات ومفاهيم أخرى كسوء المعاملة علاوة على توقف هذا المعنى إلى حد ما على طبيعة عملية التفاعل التي تجمع الطفل بأعضاء الأسرة وأنماط الضبط المستعملة في الأسر… فإن اتجاه الباحث هو أن العنف في الأسرة ضد الأطفال يقصد به مختلف الأنماط السلوكية الموجهة وغير الموجهة الصادرة عن الوالدين والموجهة ضد الأطفال كذلك جميع الظروف الأسرية المحيطة بهم والتي تسبب لهم أضرارا جسمية وعقلية ونفسية واجتماعية تعيق نموهم وتترك آثارا سلبية في جوانب شخصياتهم.
يتضمن هذا الاتجاه تدرج أساليب العنف وظروفه من المستويات البسيطة إلى البالغة القسوة، وقد تصل إلى درجة الإجرام، كما يأخذ بعين الاعتبار جميع أساليب العنف وأنواعه التي يتعرض لها الأطفال في مختلف مراحل طفولتهم خاصة في الخمس سنوات الأولى.
أنواع العنف في الأسرة:
لوحظ من خلال ما تسنى لنا من حالات العنف التي يتعرض لها الأطفال في أسرهم تنوع تلك الحالات وتشابكها مع أسباب وظروف معينة، كما لوحظ اختلاف تأثيراتها باختلاف تلك الأسباب والظروف. فمعاناة الأطفال الناجمة عن إدراكهم أن أفعال العنف المقصود بها إلحاق الضرر والأذى بهم كانت أشد إيلاما وتأثيرا في نفوسهم من غيرها، خاصة تلك التي تصدر عن أشخاص لا يتوقعون منهم إلا الكراهية « زوج الأم، زوجة الأب ».
انطلاقا من تنوع تلك الحالات يمكن تصنيف العنف إلى عنف موجه وعنف غير موجه.
أ- العنف الموجه:
يقصد بالعنف الموجه كل الاستخدامات غير الشرعية للقوة والتهديد لإلحاق الأذى والضرر بالأطفال الواعية المدعومة بإرادة وإصرار سواء أكانت مبررة أو غير مبررة. إن هذا النوع من العنف باعتباره إرادي تعد أسبابه من أخطر العوامل التي تؤدي إلى بروز العنف ضد الأطفال في الأسرة علاوة على ما يعززه من آثار سلبية تلقي بضلالها على المجتمع بأكمله وغالبا ما يكون الأمهات والآباء هم الطرف البارز في هذا النوع من العنف لأنهم يشكلون العنصر الواعي. ومن أهم أشكال العنف المباشر ما يلي:
1- أسلوب القسوة والتسلط في معاملة الأطفال:
تعتبر القسوة في معاملة الوالدين لأطفالهم من العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى ظهور النزاعات العدوانية عند الأطفال مبكرا(محمد جميل يوسف منصور، 1985، ص 164. ) وقد أوضحت ذلك العديد من الدراسات خاصة دراسة ( بندورة) التي توصل فيها إلى أن الآباء المتسمين باستخدام القسوة والعقاب البدني: الضرب، الربط بالحبال، الحبس، الحرمان من وجبات الطعام، إعطاء مواد لاذعة والتهديد… الخ. مع أطفالهم يكون سلوكهم عاملا مساعدا على اقتراف السلوك العدواني، كما أن الآباء الذين يشجعون أبناءهم على المشاجرة مع الآخرين للحصول على مطالبهم بالقوة والعنف هم أكثر عدوانية من الأطفال الذين لم يشجعوا على ذلك. (أحمد السيد محمد إسماعيل، 1995، ص 132. )
كما تبين أن بعض الأمهات يلجأن إلى الضرب مثلا لمنع الطفل من البكاء أو لمنعه من إظهار سلوك مرغوب عنه أو لمنعه من العبث بمحتويات المنزل.
أحيانا أخرى كبر حجم الأسرة وتعدد الأولاد يدفع الأم لضبطهم بالضرب أو التهديد… نتيجة إزدياد مسؤولياتها، كما أن الأب الذي يعود من عمله مرهقا كثيرا ما يلجأ إلى القسوة في التعامل مع أطفاله.
ومن الأسباب أيضا التي تدعو الوالدين لاستعمال القسوة مع أطفالهم الاعتقاد السائد بأن القسوة من أفضل الأساليب لإعداد الطفل للحياة المستقبلية لأنها تكسبهم أنماطا سلوكية مرغوب فيها وتستبعد أخرى غير مقبولة، كما تكسبهم القدرة على ضبط الدوافع والتحكم فيها، وهذا ما يدعو بعض الوالدين لاتخاذ العنف موضوعا تفتخر به.
كذلك فإن عاطفة الكراهية التي قد يكنها زوج الأم أو تكنها زوجة الأب تكون وراء استعمال أساليب قاسية مع الأطفال ضمن الأسرة. علاوة على ذلك فإن الطفل غير المرغوب فيه « كره الوالدين أو أحدهما لإنجاب الأطفال، وارتباطه بخبرة غير سارة… » يدفع بالوالدين كليهما أو أحدهما للقسوة معه.
يدخل ضمن أسلوب القسوة والتسلط في معاملة الأطفال:
أ- صور الاستغلال الجسدي للأطفال:
حيث يطلب من الأطفال أعمال شاقة تسبب لهم آلاما وأضرارا جسدية « حمل أثقال، تنظيف
المنزل » وهذه إضافة إلى إنها لا تتناسب مع نموهم الجسمي، فإنها تحرمهم كذلك من اللعب وتعيقهم عن نموهم السليم.
إن أسلوب القسوة زيادة على ما تسببه من آلام جسمية تثير لديهم مشاعر سلبية
« كراهية، حقد » وتفقدهم الثقة بمن يحيطون بهم وتثير غضبهم.
ب- النقد والنهر والإذلال والاتهام بالفشل:
لوحظ أن بعض الأسر تستعمل مثل هذه الأساليب لدفع طفلها للعمل الأفضل وقد يلجأ بعضها الآخر للسخرية منه، إن مثل هذه الأساليب تشعر الطفل بأنه أقل من غيره فتضعف ثقته بنفسه وتشعره بآلام نفسية، وقد تؤدي بصاحبها إلى تأصيل أنماط من سلوك الاضطهاد فيبدو خانعا ذليلا أو يتظاهر بالعظمة، وقد ينحرف بسلوكه ليثبت براعته « إختلاق الأكاذيب، والسرقة وأحلام اليقظة… ».
أما تأنيب الطفل باستمرار وإشعاره بأنه مخطئ فقد تؤدي إلى شعوره بالذنب فيسرف في محاسبة نفسه على كل هفوة يرتكبها، ويلازم شعوره بالذنب شعور بأنه يستحق العقاب وقد تزداد المشكلة تعقيدا عندما يرتبط هذا الشعور مع رغبته في الإنتقام من أهله أو كراهيته لهم. فتتحول بهذا إلى عقدة الذنب حيث يذل صاحبها نفسه ويعاقبها « قضم الأظافر، رفض الطعام، إدمان المخدرات» وقد يصل به الأمر إلى التفكير بالإنتحار.
ج- أسلوب التخويف بالحبس والعزل:
تثير مثل هذه الأساليب انفعالات الطفل الحادة « خوف، غضب… » فيضعف تفكيره وتضعف قدرته على التذكر والمحاكمة، وقد تؤدي إلى عيوب في النطق « لجلجة وتأتأة… » وآلام جسمية
« صداع وأمراض عصابية وعضوية » قد يكون اللجوء إلى مثل هذه الأساليب نتيجة انخفاض مستوى تعليم الوالدين أو أحدهما.
2- أسلوب التسلط والسيطرة وسياسة فرض الرأي في المعاملة مع الأطفال:
من صور العنف المباشر، فرض الوالدين آرائهما على أطفالهم لذلك قد يستعملون أحيانا القسوة وأحيانا اللين، كمنع الطفل من ممارسة أنشطة معينة. ومنعهم من اللعب مع بعض الأطفال، والدراسة في أوقات معينة، وبطريقة معينة، ومادة معينة قبل مادة أخرى وفي وضعية جلوس معينة دون أخرى وكذلك في غرفة معينة… إلخ أنهم يريدون أن يروا في طفلهم ما يحلمون به، كما يرون أن إنصياع الصغار لإرادة الكبار دليل الاحترام وأن فرض آراء الكبار عليهم يأتي دائما لصالح الطفل لأن الطفل لا يدرك مصلحته الحقيقية.
لاشك في أن مثل هذه الأساليب تحرم الطفل من تحقيق حاجاته الضرورية لتنمية قدراته ومهاراته… لا بل قد يؤدي الحرمان منها إلى الكثير من الاضطرابات في تلك القدرات. كما لوحظ أن الكثير من الآباء يكبحون أطفالهم لما يبدونه من روح المبادرة أو يسخرون منهم… وبتكرار هذه المواقف يتعلم الطفل أن أفكاره تسبب له المتاعب ويرى الخير في أن ينقاد ويمتثل بدلا من أن يوجه نفسه بنفسه، ويتعلم بالتالي أن يلتقط الأفكار دون أي مناقشة لها. والتسلط بشكل عام يلغي رغبات الطفل ويحرمه من الحرية والمبادأة والإبداع.
إن الصراحة والسلوك الجاف الذي يلقى على شكل أوامر من الآباء على الأطفال « كن هادئا، ولا تلعب » دون تبرير أسباب ذلك يولد لدى الطفل مشاعر الحقد والكراهية نحو والديه ويحتقر سلوكهما الجاف، أو قد يحدث عكس ما أراداه منه. إضافة إلى ذلك أن تقديم المواعظ المستمرة في الفضائل المجردة والتي يلقيها الأهل باستمرار لا ينمي شخصية الطفل لا بل قد يعجز الطفل عن فهمها وتطبيقها، فالتلقين لا ينمي العقل ولا يكون الشخصية ولا يحسن المعاملة مع الآخرين.
3- أسلوب التفريط والإفراط في الحماية:
من أنماط التنشئة الأسرية المنفرة والمسيئة للأطفال أسلوب الإهمال والمتمثل في عدم المبالاة بالأبناء وعدم إشباع حاجاتهم الأولية، وعدم إثابتهم في حالة النجاح، مما يؤثر سلبا على شخصيتهم وهنا يكون اقتراف العنف وسيلة لجذب اهتمام الآباء نحوهم، وقد ينتج هذا الشعور لدى أي طفل خاصة إذا شعر بعدم إنتمائه إلى أب معين أو إلى أم معينة أو إلى أسرة معينة، كما يحدث للطفل الغير شرعي مما يجعله يشعر بغموض الحياة حوله إذ قد يتطور هذا الشعور إلى نقمة على المجتمع ( مواهب إبراهيم عياد، 1998، ص 180. )
كما يعتبر الإفراط في الحنان نمط من أنماط العنف المباشر في التنشئة الأسرية للأطفال حيث يتحمل فيها الآباء المسؤوليات والمهام المطلوب من الأطفال القيام بها دون أية محاولة لإعطائهم فرصة التصرف في الكثير من الأمور التي تخصهم، فيتعود الطفل على الأخذ دون العطاء لتحقيق جميع مطالبه دون عناء، إذ يصبح الآباء خاضعين له يلبون طلباته دون معارضة بسبب مرضه أو أنه وحيدهم أو وحيد إخوته إذ من خلال ذلك يقل شعوره بالخوف فيثور لأتفه الأسباب وتصبح نوبات غضبه وعنفه عوامل مساعدة على تلبية حاجاته. (مواهب إبراهيم عياد، 1998 ص181. )
أما الطفل في مثل هاتين الحالتين ( التفريط والإفراط في المعاملة) فإنه لا يشعر بالمسؤولية ولا يمكن أن تتكون لديه مفاهيم واضحة عن معنى الحق والواجب ويعفى حتى من تحمل مسؤولية أخطائه لأن هناك من يدافع عنها.
ومن المظاهر المنفرة للطفل ضعف الآباء أمام الطفل، كما يحدث عادة عندما تبدأ الأم بالبكاء وتخاف على طفلها لمجرد تأخره قليلا في العودة إلى المنزل، فالطفل في مثل هذا الموقف ينفجر إنه يريد تأكيد ذاته من جهة ويشعر بمحبة أمه وميله لإرضائها.
4- غياب التوافق الزواجي:
يعتبر الزواج الفاشل صورة من الصور المباشرة للعنف المحيطة بالطفل، فقد يبرز من خلال مظهر ضرب الزوجات والشجار المستمر بين الوالدين أو بين زوجات الأب وما يرافق ذلك من ألفاظ السباب والشتائم التي تتناسب وهذه المواقف.
لا شك في أن مثل هذه المواقف المرعبة للأطفال كثيرا ما يترتب عنها هدم الكيان الأسري إضافة إلى تشويش تفكير الأطفال واضطراب حياتهم وإثارة الرعب وعدم الإطمئنان وخوفهم من الآخرين والابتعاد عنهم والفشل في إقامة أية صداقات معهم.
نضيف إلى ذلك، أن غياب التفاهم والانسجام ما بين الأب والأم في أساليب معالجتهم لمشكلات أبنائهم من شأنه أن يؤدي إلى نوع من التطرف في المعاملات التربوية، مما يمنع الأبناء من اكتساب المبادئ التربوية السليمة، إذ أن هناك علاقة قوية بين عقاب الأب للأبناء وظهور السلوكات العنيفة لديهم وأن الضرب المبرح كوسيلة لعقاب الطفل يعتبر أحد أسباب ميوله إلى العدوانية والعنف ويلجأ إليه هذا الأخير في حالة حل مشاكله مع الآخرين فيصبح البطش بالضعيف والعدوان أهم المهارات التي يمتلكها ويستخدمها خلال حياته.
لاشك أن الروابط التي تتوفر للأطفال في محيط الأسرة تنمو في ظل « حنان، رعاية، حب… » وهي مهمة في نمو مهاراتهم الاجتماعية نموا سليما والعكس يحدث عند الحرمان الذي يضعف هذه الروابط.
5) مشاهد العنف:
من صور العنف المحيطة بالطفل في أسرته المشاهد العنيفة التي يراها من خلال الفضائيات صور القتل والتدمير وحمل السلاح، وتفجير الأشياء والأشخاص. علاوة على ذلك ما توفره بعض الأسر لأطفالها من ألعاب إلكترونية تضم مسدسات وبنادق ومدافع ورشاشات وصواريخ وطائرات مقاتلة وكل ما يرمز إلى الحرب، كلها تؤصل العنف الأسري (عدلي السمري، 2001. )كما أن الجلسات الطويلة أمام شاشة التلفزيون وما يظهره من مشاهد تؤصل العنف وتفقد الطفل الروابط الاجتماعية وتؤدي إلى انعزاله علاوة على الأضرار الصحية التي تسببها له.
أشار KOOP إلى أن شاشة التلفزيون تعرض قدرا كبيرا من العنف في البرامج الترقيمية، وهذا ما تتضمنه جرائم القتل وأشكال العنف كأساس في الأعمال الكوميدية. ( عدلي السمري، 2001، ص ص132- 134. )
دون أن ننكر ما يحققه التلفزيون من آثار إيجابية على مستوى التنشئة العلمية والاجتماعية للطفل من خلال مساهمته في دفع نموهم المعرفي والأخلاقي وتنميتهما من خلال تزويدهم بمعلومات جديدة وبالتالي الرفع من مستوى تحصيلهم (أمل الأحمد، 2001 ص71. )وبذلك أصبح التلفزيون يتقاسم مع الوالدين دورهما في تنشئة أبناءهم كما أصبح كذلك يشكل عاملا مؤديا للعنف خاصة عندما يتفاعل مع العوامل الأخرى المساعدة على إحداث العنف.
ب- العنف غير الموجه:
نقصد بالعنف غير الموجه جميع أساليب العنف وصوره التي تصدر عن الوالدين في حالات تدني الوعي واضطراب المحاكمة والإدراك، كذلك تلك الأساليب التي لا يقصد من ورائها إلحاق الأذى بالطفل، معنى ذلك أن حالات هذا النوع من العنف الموجه نحو الأطفال تحدث دون إرادة حقيقية لإلحاق ضرر بالأطفال وقد يتداخل العنف الموجه مع غير الموجه في بعض الحالات كما في التلفزيون والألعاب الالكترونية…
ومن صور العنف غير الموجه استعمال بعض الأمهات العقاقير بهدف تحقيق نوم هادئ مريح للأطفال الرضع هذا حتى يقمن بالواجبات المنزلية كما يلجأن إلى تنويم الرضع من أجل الذهاب إلى الأفراح والمناسبات المختلفة أو استعمال مرهم أو القهوة، أو القطران « مادة منفرة » في عملية الفطام… كذلك لجوء بعض الأسر إلى استعمال الممارسات الطبية الشعبية لعلاج بعض الأمراض والتي تترك كدمات وتسبب آلاما جسدية كالكي بالنار والوخز بالإبر أو الشلط والتشليط بشفرة الحلاقة على الجبهة أو الرأس للتخلص من عيوب النطق والاضطرابات السلوكية كالتبول في الفراش.
ومن صور العنف غير المباشر تحميل الأطفال مسؤولية الكبار، كما تحمل الأنثى مسؤولية رعاية الأطفال الصغار، والذكر مسؤولية مساعدة والده في أعماله ذلك بهدف إكساب الأطفال أدوارهم المستقبلية للقيام بها على أكمل وجه.
ونضيف إلى ذلك الشعور بعدم القيمة والرفض داخل الأسرة المبنى على أساس الجنس أو الترتيب.
تجدر الإشارة أن الأسر تتشابه أو تختلف فيما بينها من حيث الأساليب المستعملة في إكساب أطفالها أنماط سلوكية معينة أو تعديل أو إخفاء أنماط سلوكية أخرى إلى الطبقة الاجتماعية والبيئية الجغرافية والثقافية التي نشأت فيها هذه الأسر، يعني هذا أن خبرات الآباء السابقة لها تأثيرها في الأساليب المتبعة مع أطفالهم، دون أن ننسى تأثير ما تتعرض له الأسرة الآن، أو ما تتوقع أن تتعرض له في المستقبل. لأن السلوك لا يخضع لحتمية ميكانيكية، والإنسان كائن عاقل يستطيع أن يعدل من سلوكه دائما وأبدا ويقوم بتصحيح المسار أولا بأول.
وقصارى القول أن العنف في الأسرة الموجه ضد الأطفال منتشر في أسرنا لكنه ليس قاعدة عامة. ويتوقف أثر الأسرة في انتشار ظاهرة العنف ضد الأطفال على جملة من المعطيات: منها طبيعة تركيبتها الداخلية وطبيعة تماسكها وقوة انسجام أفرادها والجو النفسي السائد، والمستوى الاجتماعي
والاقتصادي. فالأسرة ذات تأثير حيوي على حياة الطفل خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة من الميلاد إلى السنة الخامسة التي تحدد فيها جل ملامح شخصية الإنسان. ومن هنا علينا بالتخفيف من المشكلات التي تعاني منها الأسر « المالية والخلافات الزواجية » حتى نضمن للطفل الأسس الأولى لعملية التطبيع والتوافق الاجتماعي.
الحصيلة:
1- إن الصورة التي سيكون عليها الوالدان هي نتيجة ومحصلة لكل التجارب التي مرو بها في إطار أسرهم اجتماعيا وأخلاقيا وفكريا وعاطفيا وصحيا. إلا أن هذه الصورة لا تسير بالضرورة باتجاه واحد، وبأسلوب واحد، لأن السلوك الإنساني لا يخضع لحتمية ميكانيكية، فالإنسان يستطيع أن يعدل من سلوكه، فالأم التي تعرضت في طفولتها للنبذ والقسوة قد لا تنبذ أو تقسو بالضرورة على أطفالها في المستقبل.
2- يكون تأصيل أو استئصال سلوك ما باستخدام أكثر من أسلوب في تشكيل شخصية الفرد فيمكن استئصال الخوف بأسلوب التخلص التدريجي من الحساسية فإنه يمكن أيضا استئصاله باستخدام أسلوب العقاب، ولكن لابد أن نعرف متى نستخدم هذا الأسلوب البسيط ومتى نستخدم ذلك الأسلوب الشديد ((العقاب)) مع أطفالنا. وأن يدرك الطفل أسباب اختيارنا لهذا الأسلوب أو ذاك وفهمهما في إطار مصلحته وفائدته.
توصيات للتخفيف من انتشار ظاهرة العنف ضد الأطفال داخل الأسر:
من العسير معالجة مظاهر انتشار ظاهرة العنف الممارسة ضد الأطفال من طرف الوالدين بمعزل عن معالجة مظاهره في المجتمع بصورة عامة. فالهدف من هذه التوصيات مساعدة الوالدين على التخفيف من هذه الممارسات التي تسبب للطفل الأذى على مستوى أي من الأبعاد العضوية والنفسية والاجتماعية، وتدور هذه التوصيات حول ما يلي:
1- نشر الوعي لدى الزوج (Couple) بأهمية التوافق الزواجي بين الزوج في إنجاب الطفل وتربيته.
2- تحسيس الوالدين بمسؤولياتهما في توفير التربية والرعاية السليمة للأبناء.
3- أن يتصف الوالدان بالخصائص المثالية حتى يصبح الزوج(Couple) أبا أو أما.
أ- الأصالة في السلوك: حيث يكون سلوك الوالدين مطابقا لأقوالهما وأفعالهما.
ب- المرونة في المعاملة: فلن ينجح الوالدان إذا إعتمدا في تنشئتهما الأسرية على أسلوب واحد في ضبط سلوك الأبناء كاللجوء إلى العقاب فقط أو إلى الإثابة دون اللجوء إلى أسلوب الاقتداء مثلا. مع ضرورة تناسب تلك الأساليب مع خصائص مراحل الطفولة المتتابعة.
ج- المساندة: تعني أن يشعر الطفل بالأمن الانفعالي وشعوره بأن هناك أشخاصا يفهمونه ويحترمونه ويتطلعون إلى أن يراه يتخذ وجهة مناسبة في الحياة.
د- القدرة على التأثير: بمعنى أن يكون لدى الوالدين القدرة على توجيه وضبط سلوك الأبناء في الاتجاه الصحيح وهذا لا يتناقض مع مبدأ الاختيار والحرية للطفل في اتخاذ قراراته بنفسه وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الوالدان يتصفان بعدم التردد أو التشكك في القدرة على مساعدة الأبناء، لأن استخدام الغضب أو الضرب وأساليب أخرى لا تتفق مع مبادئ التربية السليمة سببه فقدان القدرة على التأثير.
و- الرفق في المعاملة مع الطفل: يعني عدم العنف معه، وليس معنى هذا الموافقة على سلوكه أو الخضوع لأفكاره وتصرفاته، وإنما معناه أن يقود الوالدان عملية التنشئة الاجتماعية بسلاسة وتراحم يمكنان الطفل من أن يدرك أن هذا الأب (الأم) يسعى لمصلحته وليس مجرد شخص متسلط نقاد ينظر إلى عيوبه.
هـ- الإخلاص: يجب أن يتصف الوالدان بالإخلاص في تربية الأبناء رغم أنها شاقة في بعض جوانبها وتحتاج إلى صبر طويل ورغبة ورضا وحب في أن يساعد الأبناء في توفير التغذية والرعاية الصحية المناسبة لهم.
4) إعادة النظر في تركيبة الأسرة الجزائرية التي زالت فيها الأسرة الممتدة وانتشار الأسرة النووية بسبب تغير النمط الاقتصادي والاجتماعي المحيط والتغيرات الثقافية والانتقال السريع للتكنولوجية المعاصرة ولا شك أن لهذا التغيير الذي حدث في حجم وتركيب الأسرة الجزائرية آثار سلبية على أطفالنا.
5) أن يكون الآباء على إطلاع بفلسفة النمو، كأن يبدأ الطفل يقول (لا) قبل أن يقول (نعم) ويزحف قبل أن يمشي، ويرسم دائرة قبل أن يرسم مربعا، وهو أناني محب لذاته قبل أن يحب الآخرين، ويعتمد على الآخرين قبل أن يعتمد على نفسه.
6- الأمية وانخفاض المستوى التعليمي للزوج(Couple) وبخاصة للأم لأن المسؤولية الكبيرة التي تحملها الأم باعتبارها المسؤولة التي تلعب الدور الرئيسي في تنشئة الطفل تتطلب حدا أدنى من الثقافة والتعليم إن لم تتوفر عجزت عن القيام بها وترتب على ذلك العديد من المشكلات الصحية والاجتماعية والنفسية التي يعانيها الطفل.
7- ظاهرة الزواج المتأخر السائدة في المجتمع الجزائري والتي يتم فيها الإنجاب متأخرا ينعكس ذلك سلبا على الصحة البيولوجية والنفسية للأم والطفل وعدم قدرة الأم (الأب) على تحمل مسؤوليات التطبيع الاجتماعي والأمومة كاملة.
8) التقليل من الطلاق لأنه يضعف أو يحول دون توفر المقومات اللازمة لنمو الطفل وتنشئته التنشئة الاجتماعية السليمة مما تؤدي إلى ظهور ميول الطفل إلى العنف أو إلى الانطواء، أو إلى البرود الانفعالي أو إلى مشاعر النقص وانحراف الأحداث وغيرها.
قائمة المراجع:
1- السيد عبد الحليم محمود (1980): الأسرة وإبداع الأبناء، دار المعارف، القاهرة، مصر.
2- أحمد السيد محمد إسماعيل (1995): مشكلات الطفل السلوكية وأساليب معاملة الوالدين، الطبعة الثانية، دار الفكر الجامعي، مصر.
3- احمد محمد الزعبي (1994): أسس علم النفس الاجتماعي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، اليمن.
4- أمل الأحمد (2001 ): بحوث ودراسات في علم النفس، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، لبنان.
5- جلبي خالص (1998): سيكولوجية العنف. دار الفكر، بيروت، لبنان.
6- جليل وديع شكور(1997): العنف والجريمة الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان.
7- زين العابدين درويش وآخرون(1993) علم النفس الاجتماعي، أسسه وتطبيقاته، الطبعة الثانية، مطابع زمزم، القاهرة، مصر.
8- سناء الخولي(1984): الأسرة والحياة العائلية، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان.
9- عبد الرحمان عيسوي: (1994): المشكلات النفسية عند الأطفال، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر.
10- عدلي السمري(2001): العنف في الأسرة، تأديب مشروع أم انتهاك محظور، مطبوعات مركز
البحوث والدراسات الاجتماعية كلية الآداب جامعة القاهرة، دارالمعرفة الجامعية الجيزة، القاهرة، مصر.
11- علاء الدين كفافي(1999): الإرشاد والعلاج النفسي الأسري، الطبعة الأولى، دار العربي القاهرة، مصر.
12- مصطفى التير (1997): العنف العائلي، مطابع أكاديمية نايف، الرياض، المملكة العربية
السعودية.
13- مواهب إبراهيم عياد (1998) إرشاد الطفل وتوجيهه في سنواته الأولى، دار المعارف الإسكندرية، مصر.
14- محمد جميل يوسف منصور (1985): قراءات في مشكلات الطفولة، الطبعة الأولى تهامة جدة المملكة العربية السعودية.
15- محمد عبد الرحمان السقيرات(2001): ظاهرة العنف في المجتمعات، دار الفكر، بيروت، لبنان.
16- محمد محروس الشناوي (1996): العملية الإرشادية والعلاجية، الطبعة الأولى، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر.
17- نبيل عبد الفتاح حافظ وعبد الرحمان سيد سليمان (2000): علم النفس الاجتماعي، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، مصر.